skip to Main Content

دمشق عبر العصور: تاريخ مدينة لا يموت

دمشق: أقدم مدينة مأهولة في العالم

تعد دمشق عاصمة الجمهورية العربية السورية وأقدم مدينة في العالم لا تزال مأهولة بالسكان حتى اليوم. استوطنها الإنسان منذ الألف الثانية قبل الميلاد، وظلّت مركزًا حضاريًا مزدهرًا على مدى العصور.

ورد ذكر دمشق في رسائل تل العمارنة التي تعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد باسم “دمشقا”، وهو اسم ذو أصول آرامية مشتق من “مشق”، ويعني “الأرض المزهرة” أو “الحديقة الغناء”. كما أُطلق عليها عبر العصور أسماء عدة، منها جلّق والشام، إضافة إلى لقب “الفيحاء”، الذي يشير إلى اتساع مساحتها وكثرة بساتينها.


دمشق في العهد الآرامي

كانت مملكة آرام دمشق من أقوى الممالك في المنطقة، وتميزت بتقدمها في الري والزراعة. برع الآراميون في الهندسة المائية، حيث شقّوا قنوات لري الأراضي، ما جعل دمشق مركزًا زراعيًا مزدهرًا.


دمشق في العهد اليوناني – المقدوني

مع غزو الإسكندر الأكبر، ارتبط تاريخ دمشق بالغرب لما يقارب عشرة قرون. وبعد وفاة الإسكندر، أصبحت بلاد الشام خاضعة لـ الإمبراطورية السلوقية، التي أولت دمشق اهتمامًا خاصًا، على الرغم من اتخاذ أنطاكية عاصمة لها. كانت المدينة مسرحًا للنزاع بين السلوقيين والبطالمة في مصر، مما أثّر على استقرارها.


دمشق في العهد الروماني

دخل الرومان دمشق عام 64 ق.م، وحوّلوها إلى مركز تجاري رئيسي على طريق القوافل. شهدت المدينة تطورًا عمرانيًا كبيرًا، وتم بناء الشارع المستقيم، الذي ما زال أحد معالمها الرئيسية حتى اليوم.


دمشق في العهد البيزنطي

في ظل الإمبراطورية البيزنطية، انتشرت في دمشق الكنائس والأديرة، حيث بُنيت حوالي 15 كنيسة داخل أسوار المدينة وخارجها. كانت كنيسة مار يوحنا من أشهر هذه الكنائس، وقد أُقيمت على جزء من معبد جوبيتر الروماني، لكنها هُدمت لاحقًا عند بناء الجامع الأموي.


دمشق في العهد العربي الإسلامي

دخل المسلمون دمشق عام 635م، بعد أن فتحها خالد بن الوليد من الشرق وأبو عبيدة بن الجراح من الغرب، دون تدمير للمدينة أو إراقة دماء. عاش المسلمون والمسيحيون في تسامح فريد، حتى أنهم استخدموا الكنيسة الكبرى كمكان عبادة مشترك، حيث خُصص جزء منها للمسلمين والجزء الآخر للمسيحيين.

مع قيام الدولة الأموية، أصبحت دمشق عاصمة الخلافة الإسلامية، مما جعلها أهم مدينة في العالم الإسلامي. تميزت هذه الفترة بازدهار عمراني واقتصادي كبير، وشهدت بناء الجامع الأموي، أحد أعظم التحف المعمارية الإسلامية.


دمشق في العهد العباسي

مع سقوط الدولة الأموية عام 750م، انتقل مركز الحكم إلى بغداد، وفقدت دمشق مكانتها السياسية. عانت المدينة من الثأر العباسي ضد الأمويين، حيث تم تدمير أجزاء كبيرة من معالمها، وتحوّلت إلى مدينة ثانوية في الدولة العباسية.


دمشق في العهد الفاطمي

في عام 969م، أصبحت دمشق جزءًا من الدولة الفاطمية. شهدت هذه الفترة اضطرابات سياسية واقتصادية كبيرة، حيث ثار السكان ضد الحكم الفاطمي عدة مرات. استغل الروم البيزنطيون هذه الفوضى وشنّوا غارات على شمال بلاد الشام، مما زاد من معاناة السكان.


دمشق في عهد السلاجقة والأتابكة

استعاد السلاجقة السيطرة على دمشق، وفرضوا ولاءً اسميًا للخلافة العباسية في بغداد. حكمها الأتابكة، الذين كانوا وصيًا على أبناء السلاجقة، وكانوا يحكمون فعليًا بسلطة مستقلة.


دمشق في العهد الأيوبي

بعد وفاة نور الدين زنكي عام 1174م، انتقل الحكم إلى صلاح الدين الأيوبي، الذي جعل دمشق عاصمة دولته. خلال هذا العهد، أصبحت المدينة مركزًا للمقاومة ضد الصليبيين، حيث انطلقت منها الجيوش لاستعادة بيت المقدس عام 1187م.


دمشق في عهد المماليك

مع انتصار قطز والظاهر بيبرس على المغول في معركة عين جالوت (1259م)، أصبحت دمشق جزءًا من الدولة المملوكية. تعرّضت المدينة لغزو المغول مرة أخرى عام 1400م، بقيادة تيمورلنك، الذي دمّرها وأحرق أجزاءً كبيرة منها.


دمشق في العهد العثماني

دخل السلطان سليم الأول دمشق بعد انتصاره على المماليك في معركة مرج دابق عام 1516م. كان السكان قد ضاقوا ذرعًا بفساد المماليك، فاستقبلوا العثمانيين بآمال جديدة. خلال هذا العهد، أصبحت دمشق محطة رئيسية في طريق الحج إلى مكة، وتم إنشاء العديد من المنشآت الخدمية، مثل التكية السليمانية.


دمشق في عهد الانتداب الفرنسي

بعد الحرب العالمية الأولى، تم تقسيم بلاد الشام بين فرنسا وبريطانيا وفق اتفاقية سايكس بيكو. في 8 مارس 1920م، أعلن المؤتمر السوري العام استقلال سوريا، ونُصّب الملك فيصل الأول ملكًا عليها. لكن الاستقلال لم يدم طويلاً، حيث احتل الفرنسيون دمشق بعد معركة ميسلون (1920م).


دمشق والاستقلال السوري

شهدت دمشق أحداثًا تاريخية بارزة خلال القرن العشرين، أبرزها الثورة السورية الكبرى عام 1925م، حيث قصف الفرنسيون المدينة بوحشية، مما أدى إلى دمار واسع في حي سيدي عامود، الذي سُمّي لاحقًا بـ الحريقة.

نال السوريون استقلالهم عام 1946م، بعد جلاء القوات الفرنسية، لتبدأ دمشق مرحلة جديدة كعاصمة للجمهورية السورية المستقلة.


دمشق اليوم: مدينة تتنفس التاريخ

رغم مرور آلاف السنين، لا تزال دمشق تحتفظ بعبق التاريخ، حيث تجتمع في أزقتها الحضارات المتعاقبة التي مرت بها. من شوارعها القديمة إلى قلعتها وأسواقها التراثية، تظل هذه المدينة رمزًا للصمود والعراقة، وواحدة من أهم العواصم الثقافية في العالم العربي والإسلامي.

زيارة دمشق ليست مجرد رحلة سياحية، بل رحلة عبر الزمن، تستحضر فيها عبق الماضي وروح الأصالة التي تجعلها مدينة لا مثيل لها.

Back To Top