عشق دمشق تغنى بها الشعراء على مر القرون ،،نظموا القصائد بسحرها وجمالها ،، تغنوا بقاسيون…
شمس الدين العجلاني
حضّت الديانتان المسيحية والإسلامية على القراءة، لأنها هي سر الحياة، هي كنز المعرفة، فأول ما جاء في الإنجيل المقدس: “في البدء كان الكلمة” وأيضاً أول ما أنزل الله تعالى على النبي العربي “اقرأ باسم ربك الذي خلق”.
وأيقنت دمشق عبر التاريخ أهمية المكتبات وخزائن الكتب الخاصة والعامة. منها لم يزل قائماً حتى الآن ومنها ما اندثر بفعل الإنسان أو غضب الطبيعة، ومنها ما سرق ورحّل خارج البلاد.
هنالك الكتب الموقوفة على مدارس دمشق ومساجدها، فلم يخلُ مسجد أو مدرسة أو بيت بدمشق من مكتبة خاصة، ومن أشهرها ذخائر مخطوطات وكتب كانت بدمشق في الجامع الأموي وقبة الخزنة، والمكتبة الظاهرية، وهنالك مكتبات خاصة تحتوي على نوادر المخطوطات ونفائس الكتب من أشهرها مكتبة ابن فضل الله العمري، وابن مالك النحوي، وابن خلّكان، وأبو شامة، وخزانة آل الحسيبي والعطار والحلبي والأيوبي وآل الحمزة وآل الأمير عبد القادر الجزائري الحسني وغيرها كثير.
كان ولم يزل العديد من أصحاب المكتبات الخاصة يقفون مكتباتهم للجهات العامة حتى الآن.
نكبات المكتبات:
تعرضت دمشق عبر تاريخها الطويل لليال سوداء طويلة من كوارث ونكبات ومصائب، أتت على ما أتت.. وكانت المكتبات من إحدى ضحايا تلك الليالي السوداء..
مكتبات اندثرت إثر نكبة تيمورلنك، مكتبات احترقت بفعل فاعل أو غضب الطبيعة، مكتبات ومخطوطات سرقت ونقلت إلى أوروبا.. كتب نفيسة مخطوطات نادرة يرتقي عهدها إلى أيام الخلافة الأموية وما قبلها بعهود افتقدتها الشام!
لقد ألمّ بخزائن الكتب بالشام ما ألمّ بغيرها من مصائب وكوارث، ومع أن بعضها نجا من الحريق والزلازل والتلف، إلا أنه وقع في أيدي تجار وسماسرة الكتب والمخطوطات حيث فضّلوا بيعه لخارج سورية بأثمان مرتفعة على أن يوضع بين أيدي أهل البلد؛ لقد فضلوا لمعان الذهب ورنين الفضة على هذا التراث الحضاري الضخم، فأضاعوا ما بقي، وإنني أذكر منذ فترة طويلة كان هنالك بدمشق مكتبات لا تستقبل المواطن السوري للشراء أو الاطلاع على محتويات المكتبة وإن حصل وناله حظ الاطلاع والشراء فكان يتم البيع بالدولار! وهذا الأمر معروف لدى العديد من المثقفين، واليوم إذا احتاج باحث ما إلى كتاب أو مرجع قديم فما عليه إلا أن يذهب إلى مكتبات ومتاحف أوروبا أو المراكز الثقافية الأجنبية في سورية ليطلع على تراثه وتاريخ أجداده!
أضف إلى ذلك أن هنالك حالات كثيرة عبر تاريخنا، قام ولاة الأمر منا بتقديم نفائس ومحفوظات دمشق النادرة هدية رخيصة إلى الأوربيين!! ونستشهد على ذلك ما قدمه السلطان العثماني عبد الحميد من نفائس الكتب والمخطوطات الموجودة في قبة الخزنة بالجامع الأموي هدية إلى حليفه في الحرب الإمبراطور الألماني غليوم الثاني!.. وهذا الكنز تشتت كما تشتتت العديد من خزائن كتب الشام؟!
قبة الخزنة:
تعرض المسجد الأموي على مر الأيام والسنين للعديد من التطويرات وأدخلت عليه التعديلات، منها زمن العصر العباسي حيث بنيت في صحن الجامع قبة معروفة في أيامنا هذه بقبة الخزنة، وعُرفت أيضاً عبر الأيام بعدة أسماء فهي: القبة الغربية لوجودها في الجزء الغربي من الجامع، وأيضاً عُرفت بقبة عائشة؛ تم إشادة قبة الخزنة بأمر الفضل بن صالح بن علي حاكم دمشق العباسي في سنة (172هـ 788م)، وتقع في الجزء الغربي من صحن الجامع، وهي رمز الجامع الأموي، كما الجامع الأموي رمز دمشق.
القبة عبارة عن “غرفة” مثمنة الشكل مغطاة بالفسيفساء، تقوم على ثمانية أعمدة ذات تيجان من النمط الكرونثي، تقوم على تلك الأعمدة قبة رصاصية على شكل مثمن تستند على ثمانية أعمدة، تحمل تيجاناً وفوقها إفريز يشبه الأفاريز الرومانية وسقفها من الرصاص: “فسيفساء قبة الخزنة المتعددة الألوان أجمل من حديقة غناء. ابن جبير”، تباين ارتفاعها على مر الأيام عندما كانت ترمم أو يعاد بناؤها نتيجة نكبات الإنسان والطبيعة التي أصابت الجامع الأموي، فكان ارتفاعها عن سطح الأرض (95،9) متر أو 20 متراً وقطرها نحو 6 أمتار، وكانت الغاية من بنائها زمن العباسيين لتكون بيت مال الجامع، واختيرت لذلك كونها تقع في وسط صحن الجامع تقريباً، وصحن الجامع على مر الأيام كانت توقد فيه المصابيح ليل نهار فكانت الخزنة محل اهتمام الناس وأنظارهم على مدى 24 ساعة فهي مكان آمن لأموال الجامع الأموي. لذا عرفت حينها باسم قبة المال، أو بيت المال، وكان بابها الحديدي الصغير المعلق على جدرانها يفتح بسبعة مفاتيح كل مفتاح يحمله رجل من أعيان دمشق مؤتمن عليه.
في يوم من الأيام كانت قبة الخزنة من أهم خزائن الكتب في الشام فكانت تحتوي على أهم وأندر الوثائق والمخطوطات العربية والعبرية والآرامية..
لم يُعرف سرّ هذه القبة إلا في وقت متأخر، فكان عامة الناس يعتقدون أنها لم تزل مكاناً للصكوك والمستندات الخاصة بالجامع الأموي، ولم يكن يعلم حقيقتها ومحتوياتها إلا الندرة من خاصة أعيان الشام: “ومن الخزائن المشهورة التي بُعثرت في عهدنا ولم يعرف متى جمعت، خزانة قبة صحن الجامع الأموي بدمشق التي كانت مليئة بالنفائس محمد كرد علي”. كان عامة الناس يتوهمون أنها تحوي ذهباً ومالاً لفرط الاهتمام بها، وما إن فُتحت القبة حتى عثروا فيها على مصاحف ومخطوطات نادرة، وكانت هذه النفائس عرضة للنهب!.
غليوم:
في بادرة ملفتة للنظر قام الإمبراطور الألماني “غليوم ڤيلهلم الثاني” بزيارة الدولة العثمانية والأراضي التابعة لها في بلاد الشام، حين كانت الدولة العثمانية تلقب بالرجل المريض كونها على حافة الانهيار، تباينت وجهات النظر حول هذه الزيارة وتوقيتها وتناولت الصحف العربية والأجنبية في ذلك الزمان وجهات نظر مختلفة لهذه الزيارة منهم من اعتبرها أنها تحت راية استعمارية وطمعاً بتركة الرجل المريض وآخرون اعتبرها دعماً للدولة التي تسير في طريق الانهيار..
وقد اعتبرت عدد من الصحف المصرية أن زيارة غليوم الثاني تسعى إلى تحقيق مصالحها. ورفضت هذه الصحف ما كان يتداول عن صداقة عثمانية – ألمانية فقد ورد في صحيفة الأهرام المصرية: “نكره أن نكون كالسمك يطعم الطعمة في الصنارة، تشكمنا بعد قليل، أو كالطير ينثر لنا الحب فوق فخ منصوب لنا”.
أما جريدة المقطم فلفتت بدورها الانتباه إلى موقف ألمانيا وأنها تسعى لفرض حمايتها على رعاياها الكاثوليك في الشرق وسعيها للاستيلاء على ساحل سوريا. ودعت جريدة المقطم للحذر من الغايات الاستعمارية والتجارية الألمانية.
جاءت رحلة العاهل الألماني بناءً على دعوة السلطان عبد الحميد الثاني، وبدأت بزيارة العاصمة إسطنبول، ثم القدس، دمشق، فبيروت.
لا يخفى على المتابع لتاريخ ألمانيا في تلك الفترة، أن الإمبراطورية الألمانية كانت تعمل جاهدة على التدخل المباشر والمكثف في الدولة العثمانية، ومناهضة الدول الأوروبية الأخرى على صعيد التنافس لكسب الود والحصول على ما يمكن الحصول عليه من تركة “الرجل المريض” الآيل للسقوط، خاصة بعدما استطاعت كل من بريطانيا وفرنسا وبروسيا والنمسا، من الهيمنة على أجزاء كثيرة من ممتلكات الدولة العثمانية، ما جعل ألمانيا خارج هذه المعادلة وأنها لا تريد الخروج بخفي حنين، أرادت ألمانيا العمل لجعل منطقة الشرق منطقة نفوذ لها وصراع مع الدول الأوروبية الاستعمارية لعلها تأخذ لها مكاناً تحت الشمس.
السياسة الألمانية هذه التقت مع توجهات السلطان عبد الحميد الثاني الذي كان يبحث عن حليف أو حلفاء يقفون إلى جانبه أمام الأطماع الاستعمارية الأوروبية وهكذا تلاقى الطرفان العثماني والألماني.
أيقنت ألمانيا أن تحقيق سياستها تجاه السلطنة العثمانية تعتمد على سياسة الاستعمار الاقتصادي والتجاري وهي خير لها من الاستعمار العسكري، وبدأت فعلاً في تنفيذ ذلك من خلال عقد سلسلة اتفاقيات اقتصادية وعسكرية مع الدولة العثمانية، وفي مقدمتها الحصول على امتياز خط سكة حديد بغداد، والشام، وتدريبها الجيش العثماني وتسليحه، وهذا مما أثلج صدر العثمانيين ولقي ترحيباً لدى السلطان العثماني.