عشق دمشق تغنى بها الشعراء على مر القرون ،،نظموا القصائد بسحرها وجمالها ،، تغنوا بقاسيون…
لا أستطيع أن اكتب عن دمشق دون أن يعرش الياسمين على أصابعي *
نزار قباني
هي كذلك مدينة الياسمين , مدينة الأنهر السبعة والأبواب السبعة , مدينة لم أسكنها كما أحب و أتمنى , فأسكنها الحب قلبي و روحي
لا تغادرها روحي لو غادر الجسد .. بنيت لي فيها بيوتاً كثيرة …و لم أمتلك أيا ً منها و لايزال في الحلم متسع لبيوت أخرى
دمشق مدينة الياسمين … ياسمينة العشاق قطرة ماء من بردى تاريخ وعراقة وحضارة ..
مجنونة ً انا بها ومجنونة هي فيما تفعله بعشاقها , لن أكتب عن تاريخها فهي تاريخ الحضارة
لن أكتب عنها إلا كما تكتب عاشقة عمن تحب أكتبها كما أرها
من أيام إجازتي الصيفية اخترت يوم الجمعة لأعيد إكتشاف مدينتي عن قرب لأعرفها اكثر و أحبها اكثر إخترت أن أبدا من المدينة القديمة و للمدينة القديمة سور طويل اثري له سبعة أبواب يرمز كل باب منها لكوكب من الكواكب السبعة … و خلافاً لما أعتدنا عليه لم ادخل من أي من الأبواب بل اخترت الدخول من أشهر أسواقها .. سوق الحميدية … يمتد من شارع النصر إلى ساحة المسكية بطول 600 متر و عرض 16 متر
لم تكن مادة التاريخ مفضلة لدي أيام الدراسة كانت مادة مملة و 45 دقيقة من التعاسة .. وتغيرت مشاعري تجاه التاريخ حين أخذتني إليه دمشق من بوابتها القديمة .. وجدتني أسير على حجارة عمرها أكثر من 100 عام بُنى هذا السوق أيام العثمانيين و شهد حريقين كبيرين كادا يأتيان عليه ولكنه استمد صموده من الشام و بقي شاهدا ً على التاريخ … بقى حتى اليوم سوقاً عامراً بكل ما يقد يحتاجه المرء ..بكل فروعه و أسواقه الصغيرة والجانبية ..
لم أشأ أن انهي جولتي في ساحة المسكية فانحرفت يمينا نحو سوق الحريقة وصولا ً إلى سوق مدحت باشا
مدحت باشا او الشارع المستقيم الذي بناه الرومان شاهد أخر على عراقة وقدم دمشق يربط بين بابين من أبوابها السبعة , باب الجابية وباب شرقي يسير تقريبا موازيا لسوق الحميدية ولا تنتهي جولته عند الأموي بل يسير ليشهد المزيد فالأزقة التي تتفرع عنه تفضي إلى أسواق صغيرة كسوق الحرير و خانات و بيوت دمشقية أثرية مثل مكتب عنبر وقصر النعسان ..سوق مدحت باشا و تفرعاته وأزقته شاهد أخر على عناق أبدي بين الكنيسة والمسجد والكنيس اليهودي … لم يكن الوقت يكفيني لأزور كل تلك الأماكن و انحرفت مرة اخرى ولكن جهة اليسار هذه المرة حيث يتقاطع سوق البزورية ومدخل الشاغور مع سوق مدحت باشا .. للشاغور حكاية اخرى بكل حكايات لا يمكن ان نرويها إلا منفردة
سوق البزورية .. يفترض بك أن تكون صائما و أن تنسى كل انواع الحميات عند زيارتك لهذا السوق
فالروائح و الألوان و الأشكال وكل المعروض كفيل بزيادة وزنك عدا عما يقدمه لك الباعة من قضامة وملبس وراحه
على سبيل الدعاية لمحلاتهم ..
لكل سوق , حي , حارة في دمشق رائحة تميزه عن غيره و أنا على يقين أني لو اغمضت عيني ودخلت لأاي منها لميزته من تلك الرائحة و لسوق البزورية كما لغيره رائحة تميزه رغم أن اليوم جمعة و المحال اغلبها مقفل ولكن لاتزال رائحة الأعشاب والعطورات و البهارات تعبق في الجو لتميز المكان عن غيره …
يتوسط السوق حمام نور الدين الشهيد و في دمشق لكل شيء حكاية وللحمامات حكاية
لم أشهدها يوما ً ولكن رواها لي سريعاً باب الحمام والبحرة التي تتوسطه و صوت إنهمار الماء و الطاسات و جرن الحمام …
لم يكن حمام السوق مكاناً للنظافة وحسب بكل كان نزهة للجميع …
أسرعت الخطا فقد مالت الشمس نحو المغيب .. عند نهاية سوق البزورية إلى اليمين يقع مدخل قصر أسعد باشا العظم نموذج رائع للبيت الشامي القديم و إلى اليسار زقاق صغير يفضي إلى سوق الصاغة القديم
يواجهك من سوق الصاغة سور الجامع الأموي وأي الإتجاهين تختار يميناً او يساراً يقابلك عالم ُ من السحر وباب من أبواب الجامع الأموي اتجهت نحو اليسار للدخول إلى الجامع من باب ساحة المسكية ….حين غادرت المنزل قاصدة دمشق القديمة ظننت اني العاشقة الوحيدة التي واعدت من تحب سراً عن الغروب و إذا بعشاق دمشق كثر …
كان آذان المغرب قد ارتفع و الناس يسارعون لدخول المسجد لإداء الصلاة .. لم تكن تلك المرة الأولى التي أدخل فيها إلى الجامع الأموي ولكني شعرت أنها كذلك .. مشاعر مختلفة انتابتني حين بدأت السير في باحة السجد حافية القدمين… في الواقع لم أكن أسير شعرت أني أطير … لم أكن ادري إلى أين يجب ان انظر .. إلى تلك الحمائم البيضاء التي شاركت الناس فناء المسجد أم إلى لوحة الفسيفساء الرائعة التي تعلو الباب هل انظر إلى وجوه الناس المتخلفة الأجناس و الأعراق أم الى تلك المآذن العريقة …ربما يفترض بي أن ارفع رأسي للسماء أشكر الله واحمده أني هنا …
انتهت صلاة المغرب وبدأ بعض الناس يغادرون وأخرون يدخلون … مكان لا تتوقف الحياة فيه أبدا ً إلى ما بعد صلاة العشاء …
غادرت المسجد من باب النوفرة أي الباب الذي يطل على قهوة النوفرة …قهوة قديمة جدا شعبية جداً … كراسيها من الخيزران وطاولاتها صغيرة جداً و مستديرة …فنجان القهوة هنا واليانسون والشاي والمليسة و الكولا و الأرجيلة أسعارها عادية رغم أن المكان سياحي من الدرجة الأولى … في رمضان يحتل الحكواتي مكانه متصدراً القهوة ليحكي للناس حكايات ربما سمعوها مرارا وتكرارا ولكن هنا لها وقع أخر … لسوء الحظ لم احضر الحكواتي و لا مرة ولسوء الحظ مكاني الذي اعتدته دوما حين آتي إلى هنا لم مشغولا المقهى بكامله كان يعج بالزبائن من جنسيات مختلفة و من لم يجد له كرسياً في المقهى جلس على المصطبة قبالة مدخل الجامع او الدرجات المؤدية للمقهى وقد فعلتها مرات كثيرة … لا يمكن ان تمر من هذا المكان و تفوت فرصة الجلوس ولو لبضع دقائق …
غادرت من ساحة المسكية التي اشتد بها الزحام مروراً بضريح الناصر صلاح الدين
إلى باب العمارة أو باب الفراديس وهو احد أبوابها السبعة مروراً بمسجد السيدة رقية .والعمارة الجوانية
عبرت شارع الملك فيصل باتجاه حيينا القديم … ملعب طفولتي ومراهقتي وصباي ..
قاسيون مهدي …
لا يمكن ان تزور دمشق دون أن تطل عليها من قاسيون ….
قاسيون … حبيبها .. يحتضنها أو تحتضنه ….
أشعر بالنشوة والسعادة عندما اتذكر أني ولدت في حضنه أن يحتضنني أيضا ..و من قال أني أنسى
لا يمكن وصف تلك اللحظة و أنا تحديدا ً تخونني الكلمات دوماً …. أثناء الطريق انشغلت بالحديث مع سلوى صديقتي الغالية
عندما وصلنا ونظرت إلى دمشق من قمة قاسيون إنتابني شعور غريب جميل لذيذ مختلف .. شعرت أني املكها و أنها تتملكني أننا روحاً واحدة … شعرت برغبة بالطيران بل أكثر..شعرت أني قادرة على الطيران وانها ستحتضنني
انا على قمة قاسيون و هي أمام ناظري بمعظم تفاصيلها كما لو أنها في راحة يدي …..
.هاهومسجد بني أمية وها هو شارع أبو رمانة وساحة الروضة و قبة مفام محي الدين ابن عربي ..وها هي ساحة الأمويين
وهنا وهناك …. … كل بيوت الشام الأن بيتي ملكتها في لحظات وملكتني الشام …
لم أشعر بسعادة كما في تلك اللحظة .. كانت صديقتي قد التزمت الصمت …
فهمت صمتي فلم تتكلم …
الصمت هنا مقدس
الصمت هنا جمال كما قال نزار …
سحبنا كرسيين وجلسنا كان الظلام قد بدأ يحل والناس يتوافدون بكثرة
قبيل الغروب بإمكانك رؤية كل تفاصيل المدينة …
و بعد ان يحل الظلام تراها كما لو انها ثوب عروس مرصع بالجواهر …
لها في كل وقت حكاية / حكايات لا تنتهي …
قد .. أقول قد يكفيك أسبوع أو عشرة أيام لاستكشاف دمشق لكن لن يكفيك العمر كله لتخرج منها أوتخرجها من ذاكرتك …